الجمعة، 6 يوليو 2012

الشهيد الحي " قصة قصيرة "







 * لم أفزع هذه المرة حينما رأيت صورته بالصحيفة الرسمية للبلاد تحت العنوان الرئيسي الذي دائما مايكتب بالنبط العريض " بين الحياة والموت " فلقد رأيت صورته أكتر من مرة بل وقابلته شخصيا قبل تلك الأحداث التي اختلف الناس في تسميتها فالبعض يراها ثورة والبعض يراها إنقلابا علي نظام الحكم والبعض وقف من تلك الأحداث موقف الحياد ولكنت ظلت هناك فئة مثار جدل كبير حينما انحازت في باديء الأمر إلي اولئك الشباب ثم فجأة اتهموهم بالعماملة الوتخوين والتمويل الخارجي وزعزة نظام الحكم وتارة أخري يمدحونهم ويرفعونهم من أسفل سافلين إلي عنان السماء ! ويضيفون عليهم أبهي الأوصاف والمحاسن بأنهم شباب لديهم الحماسة لتطوير البلاد وهو وقود تلك الأحداث ومحركها ولكنهم سرعان ما ينقلبوا ثانيا وينصحون الشباب بالجلوس علي المقاهي حيث يتسع المجال لكبار السن وكل من ساهم في وصول الحال إلي ما آل عليه الآن فهم الأجدر بالعمل والبناء وتطوير ورفعة الأمة فكل شيخ من هؤلاء يستطيع دفع عجلة الإنتاج – وهي فارغة بالطبع – إلي الأمام ولا وجود لاولئك الشباب .
 رأيته علي شاطيء عروس البحر المتوسط معشوقتي " الأسكندرية " وكان ينظر إلي البحر وأمواجه الهادئة وهي تحنوا علي إحدي البواخر كحنو الأب علي ابنته فلذة كبده وكان ينظر إليها في إهتمام وترقب حتي ظننت أن بالباخرة شخص عليه قد غادر وتركة وحيدا ليعاني آلام الوحدة فوق آلم الحياة المعتادة ولكني تسألت إن كان بالفعل شخص عزيز عليه فلماذا لم يذهب ليودعه ووقف هنا بعيدا عنه ؟ هل يخشي لحظات الوداع ؟ هل هو من نصحة بالمغادرة ولكنه لم يستطع ان يخبره بأن يبق بعد أن أقنعه بالسفر ؟ أم هو الذي يريد السفر وينظر للباخرة لا من علي متنها ! ذهبت رأسي يمنه ويسرة  وتدافع سيل من الأفكار والأسئلة وكيف السبيل إلي رد تلك الأسئلة وصاحب الحال لم تتحرك له شفتة أو يغمض له جفن إلا بعد أن توارت الباخرة عن الأنظار واختفي صوتها ودخانها ودفعني الفضول وسألته – دون سابق معرفة – لماذا كل هذا التتبعلهذه الباخرة ؟ أعليها شخص عزيز عليك أقنعته بالسفر وندمت ؟ أم أنك متعلق بالباخرة نفسها ؟ نظر إلي وابتسم ابتسامته المعهودة تلك التي رأيتها في الصورة وكانت ابتسامة تنبع بالحب والود والصفاء والنقاء والطيبة و سلامة الفطرة التي لم يشوبها أي تعصب فكري كان أو ديني وكأنه لا يعيش في عالمنا المليء بالحقد والحسد والبغضاء والشحناء والتعصب حتي أن البعض حول كل شيء جميل في هذا العالم إلي شيء قبيح بشع ، عاد لينظر إلي البحر مرة أخري وكانت الأمواج خرجت عن هدوءها وبدأت تتلاطم بالصخور الموجودة أمام الشاطيء ولقربنا منه أصابنا بعض من رذاذه فهدءت النار التي في داخلي جراء ذلك التجاهل وعدت لأسألة مرة أخري فنظر إلي وابتسم نفس الإبتسامة وانتابتي حالة من القشعريرة والغيظ إزاء ذلك الهدوء المصحوب بالتجاهل ! وخجلت من نفسي لأنني سببت له تلك الضوضاء بسؤالي وإلحاحي في معرفة الجواب فصمت برهة من الزمن وقررت أن أغادر عنه وأتركه وبحره دون أن أصدر أي صوت أو حتي اعتذر فحتي الإعتذار سيخرجة من هدوءه الذي فيه وفي نفس اللحظة التي هممت بها بالرحيل وجدته يلتفت إلي كليا وقال لي : " هل ستذهب قبل أن تعرف إجابة سؤالك ؟ " أراك قد أحسست بالخجل والضيق لأنك اقتحمت خلوتي بالبحر وازعجتني بسؤالك ... لكني أؤكد لك أنني لم تحدث مضايقة أو شيء من هذه القبيل " . لم أستطع أن افتح فمي لاتكلم بكلمة واحدة وأكمل كلامه : " أشكرك علي مشاعرك النبيلة وسؤالك ولكن لا أحد علي متن هذه الباخرة أعرفة سوي حلم ! " قبل أن يعود إلي هدوئي اصابتي دهشة من كلامه ولكنه أردف قائلا : " لا تستغرب كثيرا فحلم كل شاب في بلادنا أن يركب مثل هذه الباخرة ليغادر أرض وطنه باحثا عن المال والجمال في بلاد الغرب علي الرغم من أن لدينا من المال ما يكفينا ويجعلنا دولة عظمي لكنه منهوب والجمال حولك في كل مكان وفي كل شيء اظر ها هي الأسكندرية التي ليس لها مثيل في بلاد العالم أجمع وكذلك في كل المحافظات ستجد الجمال التي يناسبها ويناسب أهلها لكنهم أغفلوا عنه ! وأهملنا كل مظاهر الجمال وأمعنا في إفساد كل شيء حولنا فكدسنا أكوام القمامة في كل مكان وانتشر الفساد في كل الهيئات والمؤسسات من أصغر عامل إلي المدير ، لا أحلم كمعظم الشباب أن أغادر هذه البلاد ولكني أحلم أن أغيرها " عاد إلي هدوئي ولم تتغير نظرة الدهشة والإعجاب من الكلام وزاد اندهاشي أكثر من الإصرار الذي كان يتحدث به وبريق عينيه عندما نطق حلمه في تغير البلد وتنظيفها من كل ألوان الفساد والظلم والإستبداد وسألته دون وعي : كيف ؟ فتبسم ابتسامته المعوده والتي شرفت علي أن اعتاد عليها وقال : " الحل في غاية البساطة وهو أن نواجه الفساد والظلم وأن نقول كلمة الحق في وجه السطان الجائر دون تحفظ أو محاباه أو خوف وقبل كل هذه علينا أن نتوحد وننبذ خلافاتنا السياسية والفكرية والدينية مؤقتا ولنجعل همنا الأول هو " مصر " وينكر كل منا ذاته ونطمس مصالحنا الشخصية في مصلحة الوطن هذا ببساطة سبيل التغير وهذا ما جعلني أتابع الباخرة بشدة – كما ظننت – ففي الحقيقة لم أكن أتابعها بل كنت أتابع البحر أنادية وأناجية واتحدث معهلكنك قطعت كلامنا فهاج وماج وتلاطمت اموجاه بصخور شاطئه حتي بلت ثيابك " فنظرت لثيابي فإذا هي مبللة بالفعل ولم يكن علها مجرد رذار كما توهمت وظننت نفسي في حلم فصفت نفسي لأفيق من الحلم لكني أفقت علي شدة الصفعة وألمها ورايته ينظر إلي بابتسامته التي قد تعودت عليها فأيقنت أنني لم أكن أحلم .
 نظرت إلي ساعتي فوجدت الوقت قد حان للمغادءة للعودة إلي القاهرة مرة أخري فاستأذنت منه علي مضض وأذن لي بإنصراف وفي ساعة عودتي للقاهرة كانت الجموع تتحرك في كل الميادين في البلد من الأسكندرية إلي أسوان وحصل ما تمناه صاحبي واندلعت شرارة الثورة في السويس وأصيب الكثير في أحداث الثورة وفزعت عندما رأيت صورته في مصابي الثورة وكانت حالته خطرة جدا استدعي والده أمهر أطباء القلب في العالم فأخبروه بأن ابنه لا يمكنه أن يستحمل الحياة وآلامها وأفراحها بذلك القلب المثقوب ويلزم نقل قلب أو زراعته كي ينجو من الموت وبالفعل جاوبهم والده لكل متطلباتهم وجيء بالمتبرع الذي وهب قلبه قبل وفاته وتم إعداد غرفة العمليات ودخل الفريق الطبي المكون من عشرة أطبار كبار في زراعة القلب في العالم لكنهم اكتشفوا أن المتبرع لديه مرض مزمن في القلب ولا يمكن أن يتم نقل القلب فلقد خدعهم أحد اقربائه وجاء لهم بفحوصات مزيفه لا تمت إلي المتبرع بصلهفماذا سيفعل الأطباء حيال المريض ؟ هل ينقلوان القلب بكل ما فيه من أمراض ليضاف للمريض أمراض جديدة ؟ هل يخبروا والده بالحقيقة ليقرر ماذا يفعل ؟ هل يوقفوا العملية من الأساس لأنه ليس لها أي جدوي ؟ فما القيمة من نزع قلب مثقوب بحب الوطن بقلب آخر انهكة حب الوطن ! كلا القلبين مريض بنفس الداء وهو الداء الذي لم يعرف الأطباء له علاجا حتي الآن .
 الوقت يمر والمريض في خطر والمتبرع مصاب بنفس إصابة المريض ولا يمكن الحصور علي متبرع آخر قبل يومين – علي الأقل – وقلب المرض لم يعد يسعفه إلي أن يقوم لعمله الطبيعي لمدة يوم واحد ! .
 كل هذه التفاصيل تم ذكرها في الصحيفة الرسمية للبلاد وظننت أنه قد مات ودفن قلبه ودفن معه حب الوطن الذي طالما عاش يحلم بتغيره وانقطعت أخباره عن الصحيفة وسارت الأحداث بسرعة رهيبة إلي أن عاد الناس إلي الميادين مرة أخري وعادت تنشر صور المصابين والقتلي في الصحيفة الرسمية ورأيت صورته للمرة الثانية بتفاصيل جديدة وأحداث جديدة ومع توالي الأحداث كانت صورته تتصدر الحصف الرسمية للبلاد والمعارضة لها ودار في ذهني أن أضع حدا لآلامه ومعاناته وآثرت أن أكتب نهايته بيدي لكني رأيت في موته نهاية دراماتيكية فآثرت أن أبقيه مع حلمه علي قيد الحياة فلا شيء يجعل الإنسان الصادق يتخلي عن حلمه سوي الموت ولأن حلمه فكرة انتشرت في طول البلاد وعرضها فهو لن يموت ... لن يموت ... لن يموت ... وهكذا اعتدت أن أري صورته إبان أي حدث يحدث في البلاد وما أكثرها .
23/3/2012

ليست هناك تعليقات: